إنها أساور جدتي … معبوقةً بطيب مسكها … معجونةً برائحة حناها … مخلوطةً بدفء يديها … ممزوجةً ببهجة أيامنا … وضجة ذكرياتنا … وصور أفراحنا … وتصفيق يديها الصغيرتين في حفلات النجاح وأعراس الحفيدات … أهدتنيها يوم عرس أختي … وقالت بحنانها المعتاد: “خذيها يمة … هدية لك … وإذا مت … لا تبيعييينها” … مطّتها هكذا كأنها توصيني …! ولكني بعتها !!… بعتها لأني أحب لها أن تخلد في ذاكرة الأيام والإنسان … بعتها … وما كانت تعجزني قيمتها نقدا … غير أني تأملت فرأيت أن نقاطاً هامة من التحول في تاريخنا الإسلامي … قد كان وقودها عطاء امرأة … من زينتها من حليّها… ! أو ما كان رباط الهجرة (نطاق) أسمـــاء … وما أسماء إلا كل النساء … والنطاق إذا رآة الرجال خرقة من قماش، فهو في عين المرأة قطعة مقدسة من موروثها الفطري …! تمرح به في طفولتها … وتزهو به في صباها … و لا تكتمل زينتها إلا به.. إذ هو جزء من معانيها التي لا تترجم ..! ولا يعرف معنى “إنفاق النطاق” إلا الحبيب المحبوب … خبير النفوس وطبيب القلوب صلى الله عليه وسلم ! ولذلك بشّرها بـ”نطاقين” … ولم يقل لها: ذات الجنتين أو الهجرتين ..! وإذا كان أهل السير قد رأوا في اللقب النبوي لأسماء -ذات النطاقين- تعويضاً بالضعف (بحسبة رياضية : نطاقين عوضا عن واحد) … فهو في عند المرأة لقبٌ يعيد لها ما فقدت من الزينة التي تُحب .. تتزين به أمام صويحباتها بل أمام التاريخ بأسره …! وهل شيئ يشبه نطاقها ..!
هل تذكرون التاريخ إذ حكى لنا عن “ضفيرة” قَصّتها امرأة من شعرها لِجَاماً لخيل في سبيل الله حين عجزَتْ عما سواها .. ثم سار الخيل بالفتح والنصر ..! والمرأة حين تَقُصُّ ضفائرها … فإنها تقتطع شيئا من كيانها .. من أعمق معانيها .. من تاريخ أنوثتها الخالد.. الذي سجله القرآن لها: (أَوَ من يُنشّأ في الحلية … وهو في الخصام غير مبين) …
كنتُ أريد -كذلك- لأساور (ماما حصة) أن تُكتب في الخالدين … بـ جوار نطاق أسماء … وضفيرة امرأة لم يبَبُح التاريخ باسمها … وأقراط فتاة تركية اختلطت بدمها* … ولعل الله “تقبّلها” بيعة منزوعة من عمق الوجدان… فطارت كلماتي –عن أساور جدتي- إلى مخيمات اللاجئين – على غير تدبير مني-، ونُشرت هناك في مجلاتهم تعبيراً عن التضامن إذا بلغ مداه.. وكان لهذه الكلمات موعد مع فتيات غزة … يقرأنها رسالة حب و”تضحية” من نوع خاص … وأتت فتاة كويتية -كانت قد قرأت قصة الأساور- بحقيبة من جلد وضعت فيها حُليَّها وكتبت: “من وحي نطاقها..!” وكادت (أساور جدتي) أن تُعَرض في مزاد خيري قد يضاعف قيمتها عشرات المرات… ولكني رفضت ! لأن الأمر –على المستوى الوجداني- كان أكبر من طاقتي..! لم أستطع أن أراها تباع مرات …! ذهبتْ الأساور … وبقي رنين معناها الكبير..! طِبْتِ مُلْهِمتي حيّةً وميّتة … ماما “حصة” ..!
[*] قصة الفتاة التركية روتها هيا الشطي عن رحلة شريان الحياة 4 ، ويمكن الرجوع لمقابلات هيا التلفزيونية.
8 تعليقات
د.جميلة خليف
رائعة تلك الكلمات لكن الأروع منها تلك الروح التي سكنت أنامل من كتبتها..رائعة تلك الجدة ومن روعتها أنجبت منيرة وعبدالله ومنهما مازال الرحم ينجب الخير جيلا بعد جيل..رائعة هي ذات النطاقين وهي تكسو من روعتها كل من سارت على دربها حلة من “نطاقها” في الجنة..
طبت
وطابت أنفاسك
سارة
بالكاد ألتقط أنفاسي من روعة ما قرأت..تبارك الرحمن
جعل الله مقعدكِ في عليين ..أنتِ ومن سميتِ باسمها..الكريمة صاحبة الأساور.
والله أفخر بكوني كويتية عندما أقرأ أو أسمع عن مثيلاتك.
هديل
الصورة بحد ذاتها اجبرت دموعي على النزول وتذكرت ايادي جداتي وكم اتمنى ان المس تلك الايادي مرة اخيرة.. ولكن لتقديري لاسبابك النبيله التخلي عن تلك الاساور شي حزين خاصة بعد التوصية ارث بسيط قيم بمعناه صعب التخلي عنه ليتج ما بعتيهم
يسين
عاجز عن التعبير ! عن الشكر ! عن الإعجاب ! ولكن ! ؟ يجب أن لا نكتفى بالتبرعات ! يجب قدح شرارة الذكاء التى تتوقد بأدمغتنا*فنجارى الغرب والشرق(كوريا مثلاً) فنصنع مثلهم العربات والإلكترونيات* والأجهزه والآليات ! لا أن نتقوقع بالشعر النبطى*والقبليه الجاهليه؟ والتعنصر؟والعرضات والمفطحات*و*و*؟فلنلحق أنفسنا*ونلحق بالركب*بالعقل والعمل***
عبدالله
ذهبت الأساور … وبقي رنين معناه الكبير
روعة اجد نفسي ملقى بجوارها
أمل الحبشي
ما أجمل تلك العبارات ،،،وما أروع تلك المعاني،،،في بداية قراءتي للمقال ، قلت في نفسي لو كنت مكانما لكان من المستحيل أن افرط بها فهي ليست أساور ، إنما روح تسكنها ، ولكن في النهاية أعجبني عظيم صنعك .
حصة
تفاعلكم -أيها الأعزاء- إثراءٌ للفكرة …
حياةٌ للنَّص …
د.حميلة، طاب مرورك … وحرفك : )
سارة … والفخر موصولٌ لي … بلدةٌ طيبة وربٌ غفور … وخيرٌ مخلوطٌ بتراب الأرض … بعقيدة المجتمع : )
هديل… حرفك تقطر عاطفةً وصدقا ووفاء …!
يسين … نعم، ومن أجل ذلك نضرب أعناق المسافات …!
طلباً للعلم .. إسهاماً في النهضة …
وفي (حقائبي)* أثرٌ من خطوات المسير : )
(*تصنيف في المدونة بهذا الاسم)
عبدالله… شكراً لذائقتك …
أمل… كنتُ أريد لها البقاء معنىً وأثر …
أ تُراها بقيت ..؟
أسماء اليحيى
بعتها يا حصة…والله اشترى..كسب البيع غاليتي❤