(فرشاة ترسم وطنا)

 

الكاتب: حفصة النهاري

كنا هناك يوم هبت رياح الربيع… في مهد العرب الأول … اليمن ، وكنا أمام أول اختبار فِعْليّ للمرأة اليمنية ، لم أكن أِقْدِر على تقييم دور المرأة في مجتمع يشتهر عنه محافظته إلى حد بعيد، وتحضر فيه الأمية في وسط شريحة غير بسيطة من النساء ، يقابل هذا نشاطاً ملحوظاً وحضوراً لافتاً للمرأة في أكثر من مجال….وكان الرهان

قد لا أكون ممن تروقه السياسة ، لكن الأرض كانت تموج ببنيها كما لم تفعل من قبل، فخرج الناس ليس من أجل السياسة، ولكن من أجل الحياة ، وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة كما يقول درويش ، لكن المفاجأة كانت في حشود المرأة اليمنية التي خرجت مصطحبة أخلاقها التي تسمو فوق السحاب وعزيمتها التي تفتت الصخر وما حسن من عادات بلدها…لقد خالفت اليمنية كل التوقعات وفاجأت نفسها قبل أن تفاجئ الجميع ، ويبدو أن التاريخ ذاته سيرتبك حين يسطر هذه اللحظة الفارقة.

لم تَقْم الثورة على الاستبداد فحسب، بل لقد كانت على السيئ من العادات، والمنحرف من التصورات، والسقيم من الأفكار .. كانت كالغيث الذي بلل تربة الأرض لتنبت من كل زوج بهيج.. من هنا كانت فكرة مشروعنا..فرشاة ملونة

كنت ومعي بعض زميلاتي من طالبات الجامعة ننظر إلى بلدنا بعين من رأى بلدان كثيرة غيرها ، فعرف قيمتها وفحص مكامن الخلل فيها ، وكنا قد عرفنا بالفعل أين تختبئ كل جراثيم الخراب ، وكان في داخلنا تحفز كبير وفي أعيننا أمل يلتمع مع كل نبض للأرض العزيزة.

كنا نحلم ببلد جميل ونرى وطننا يعيث فيه العابثون فساداً ، عبث طال كل شيئ بما في ذلك وجوه المدن وبطون الشوارع ، ومن هناك بدأنا .. من بطون الشوارع ووجوه المدن.

كان منطلق الفكرة من ساحة التغيير حيث يعتصم الآلاف من الرجال والنساء , وكنا تسع فتيات زميلات دراسة وسكن , خرجنا بعد الفجر نحمل أدوات نظافة الشوارع في مشهد لم يؤلف من قبل ولكنها الثورة فعل غير المتوقع , بدأنا ننظف أجزاء من ساحة التغيير وسط ذهول الثوار , وخلال يومين من هذا العمل كانت الرسالة قد وصلت لكل مرتادي الخيام ، فبدأ كل منهم ينظف أمام خيمته لتبدو ساحة التغيير مكاناً غير باقي الأمكنة.

جاءت فكرة الرسم على الحيطان وتلوين واجهات الشوارع , كان ذلك بالتزامن مع جمعة صناعة التاريخ , فبدأنا في أول لوحة رسم على جدار في شارع الستين “مصلى الثوار الكبير” وكان الحاجز النفسي هذه المرة أكثر , ولذلك كعادتنا تسللنا إلى هناك بعد الفجر حتى جاء وقت صلاة الجمعة وقد ارتسمت اللوحة الأولى على جدار أكبر شوارع صنعاء , كانت اللوحة تقول “الحرية صناعة الشعوب” ، وكان هدفنا من الرسم والتلوين هو التوعية وردف مسيرة الثورة بهذه الفرشاة التي أسميناها “فرشاة حرة” وكان هذا هو اسم فريقنا.

واستمرينا في الرسم لأسبوع ،و زاحمتنا التزامات الجامعة ووقف أمامنا التمويل عائقاً حيث كنا نقتطع من مصاريفنا لتغطية مصاريف هذه الأنشطة ، ثم توقفنا قليلاً ، لكن العمل لم يتوقف ،فقد استنسخت تجربتنا لكثير من المجموعات الشبابية والائتلافات الثورية لتتحول شوارع صنعاء وواجهاتها إلى ورش عمل نشطة لتنظيف الشوارع والرسم على الحيطان.

وبعد توقف بسيط عاد الفريق عدنا لنشاطنا نقتطع مجدداً من مصاريفنا الشخصية تكاليف مواد الرسم والتنظيف ، وكان القرار هذه للتوجه إلى حي الحصبة ، حيث أن اتخاذ القرار كان يتم بالتصويت , وكانت حي الحصبة يعني الكثير , إنه الحي الذي احتضن معارك طاحنة نقشت ذكراها على كل الجدران ، لكننا عزمنا أن تشرق الألوان الجميلة من هناك أيضاً , وهذا ما كان حيث وجدنا حفاوةً والتفافاً غير مسبوقين من سكان الحي اللذين نزلوا معنا ينظفون الشوارع ويتركون بصماتهم على الجدران الملونة.

واستمرينا في التنقل بين أحياء صنعاء ودور الأيتام والمواقع التاريخية ، ونحن نرى تجربتنا الصغيرة تتحول إلى ثقافة تتنقل برشاقة فراشة من شارع إلى شارع ومن زقاق إلى زقاق… ومن زنقة إلى زنقة 🙂

وقد عقدنا العزم أن ننفض عن الوطن غبار السنين ، سنُلوّنه بفرشاتنا الصغيرة , سنحاول أن نكون مشروعاً قيماً لنشر الوعي وتعزيز الأخلاق , باللون والعزم ، وقبل ذلك كله بعون الله.

“سَيَظَلُّ رسمك وسماً في ضمائرنا               سَيَظَلّ وشم الجرح نيشاناً وسنبلة”

لـ د.هبة رؤوف

7 thoughts on “(فرشاة ترسم وطنا)”

  1. رووووووووووووووووووووعه ادام الله هاذا التقدم وجوزيتم خيرا احبتي

  2. وأخيراً يا حفصة….كنت أنتظر حرفك بشوق، وهاهو نبت كغمامة حبلى بالنقاء والإبداع…
    جميلة حروفك كأنت التي أعرف…ولذا لم أستغرب من جمال النبض الوارد هنا..كنت فقط أنتظر…
    دمتي بود

  3. الجمال -يا حفصة- كالحرية … ثقافة روحية بالدرجة الأولى …
    والفن هو سجل آلام الشعوب وآمالها …

    وجدران هذه المدينة العريقة … دفاتر …
    وأناملكن … كلمات …

    “كل الحضارة أنتِ يا بلقيس …
    والأنثى حضارة …”
    لـ نزار

  4. سلمت أناملك ،، ما أروع الكلام الجميل وما أبدع الحروف والكلمات وهي ترسم الواقع والتجربة التي عشتينها ،،، وما أعظم الأفعال التي قمتم بها وما لها من تأثير في المجتمع ورسم البسمه والأمل على وجوه الناس ،،، فعلاً كم انتم رائعون فرشاه حرة ،،، دمتم لليمن فخراً ^___^

  5. تبدأ مشاريع التحول الكبرى بأفكار خلاقة كهاته التي رفرفت بنا إلى أرجائها الشائقة حروفك الزاهية..

    كنتما شريكتي ثلاثة أحرف وعالماً من جمال وإبداع … وكنا ضيوفاً سابغين.

    أدامكم الله ذخراً لمستقبل أمتكم المحرومة.

  6. بقايا أنثى .. الهام الحدابي .. حصه .. يوسف سرور .. م.وليد
    شكرًا لكم جميعا استمعت بقراءة ردودكم الرائعة 🙂

  7. بصراحه انتم تستحقون منا كل الشكروتقدير على هاذى الانجاز ونحن نفخر بكم كا جزا من وطننا الله يكون بعونكم وتحياتي لكم ^_^

اترك ردًا

Your email address will not be published. Required fields are marked *