Skip to content Skip to sidebar Skip to footer

رمضان ملون: عن الشهر في بلادٍ لا تصومه

قضيتُ رمضان الفائت في مدينة بإنجلترا، وكان خامس رمضان قضيتُه في الغربة، كان هذا أولها، وكان هذا لا ينسى.

أتناول إفطاري تطبخه سيدة سورية كردية لاجئة: فريكة، دجاج، تبولة، شوربة، روب بالخيار، تأتيني به قُبيل الفطور من مسافة نصف ساعة بالسيارة، مع أطباق جانبية لذيذة لم أطلبها، وكلما حاولت أن أقنعها بأن ما أطلبه منها يكفيني، تقول أنها تحب أن تشاركني ما تضعه على مائدة عائلتها، وأن لها ابنتين بعيدتين عنها، وأنها تصلني بهذا لأجل فراغ مكانهما في فؤادها.

كان طعامها لذيذاً طيباً، أقتسمه أحياناً مع فتاة مغتربة، أبعث لها برسالة، فتأتي لتأخذ فطورها، بهذه البساطة، وبهذا اللطف!

أشرب كوب شاي (كوب مو إستكانة : ) كحال العمّال الذين يصبّونه في أجوافهم في استراحاتهم العجلى، لا كحالنا في مجالسنا الندية: كوباُ كوبا، ورشفةً رشفة. وتتصل أمي (بعد موعد إفطاري) فأحدّثها على عجل:

– “لا يمة ما رحت التراويح بعد، أكلمك إن شا الله إذا رجعت”. – “لا، لا تكلميني بعد التراويح، أنام”. يمضي الشهر ونحن نحاول أن نتحايل على فرق التوقيت.

أطلب (أوبر) وأركض لأستعد للذهاب إلى المسجد (لا يخبرك أوبر متى سيصل على وجه الدقة، فقد يكون السائق على بُعد دقيقة منك، أو على بُعد عشر دقائق)، أضع مسحوق قهوة (كيف المسافر بالهيل) في (المطارة)، أصب عليه الماء المغلي، وأضيف شعيرات زعفران، أحكم إغلاقها، أضعها في حقيبة الطعام وأقفز على درجات السلّم.

أتحدّث مع السائق -أحياناً- عن صيامنا، إذا ما ابتدأني، أو حين يرى حقيبتي وأنا أحاول أن أغلقها:

– “تبدو ثقيلة”.

– “فيها قهوة عربية وتمر، علينا أن نأكل ما نحب وقد صمنا النهار كله”.

– “تصومون النهار كله، لا تأكلون شيئاً ولا تشربون؟ لا أستطيع أن أتصور ذلك.”

– “We are experienced in that، نُحسن صيامنا، إذ نتسحّر قبل طلوع الفجر، بما يناسب يوم الصيام، ونشرب كمية كافية من الماء”.

– “فكيف تنامون إذاً، وقد شربتم كميات كبيرة من الماء لتعويض نهار الصيام؟”.

أضحك، ونصل إلى بوابة المسجد.

في المسجد، تعجبهن القهوة، والتمر السكري، تقول بعض السيدات أن رائحة القهوة في المسجد تذكّرهن بالحرم. على كل كوب قهوة تسمع شكراً، أو ترى ابتساماً، أو مع كل تمرة!.

قليلُك عند أقوامٍ لا يتوفر عندها مثله كثير، ويعيد هذا تقييم النعم المألوفة عندك، ويحيي فيك واجب تعداد النعم، وحمْد المُنعم.

والمسجد ملوّن: وجوه ملونة، لغات كثيرة، وسيدة تركية مسنّة، لا تحكي بغير لغتها، وتستعيض عن شح اللغة بالأحضان، وهي إذ تعتذر عن اللغة بالعناق أشعرتني أنها تكفّر عن الجائحة -التي أشعر أن تواصُلنا بعدها في التحية والمصافحة لم يعد كما كان قبلها.

وشامٌ وسودانٌ، وقاهرةٌ، وإسطنبول، وطنجةٌ، وجاكرتا، وهندٌ وصنعاء .. تجتمع الوجوه والأوجاع والجغرافيا.

ولاجئون في المسجد وصلوا من بلاد شتى، وفيهم طفل يتوارى في آخر المسجد، يحوم حول طاولة القهوة والتمر، أسأله: من أين أنت؟ قال: من الكويت.

وسيدة من الجزائر، تعمل ممرضة في المستشفى، تضع في جيب هاتفها ورقة نقدية من فئة خمسة جنيهات، تتصدق بها للمشروع الذي يُعلَن عنه كل يوم.

وسيدات أوروبيات، قد اعتنقن الدين من حُسن عشرة أزواجهن المسلمين، من غير دعوة إلى الدين.

وإفطار جماعي يقيمه المسجد إذا وُجِد من يقوم به، فيأتي عمال يعملون في بعض المطابخ، وبعضهم يعمل في  سيارات الأجرة، يقتطعون من ساعات رزقهم يتطوعون بها لإعداد الإفطار للصائمين، يأتون من الرابعة عصراً ليطهوا الطعام، يمدّون السفرة قبل المغرب بساعة، ويقف أحدهم عند مصلى النساء يناول الطعام، والحلوى، ويأخذ بقية الأطباق حتى قُبيل العشاء.

وفي المسجد أطفال وفتيات ونساء، وأطباق من بلاد واسعة، كلها طيب. نُفطر، وكلٌّ يمدّ من طعامه، نطوي السفرة بعد الفطور، لنُدير أكواب الشاي والقهوة وأطباق الحلوى، تكنس الفتيات المسجد من أثر الفطور، ونطوي موائدنا معاً، ويقام للعشاء.

عشرون ركعة، في وجوه من أصقاع الأرض، ولهجاتها، وفتىً من الشام يقنت، وقد يناوبه شابٌ من الجزيرة. تجتمع السيدات على طاولة القهوة عند مدخل المسجد بعد انقضاء الصلاة، يعجبهن (السكري)، يسألنني كيف صنعتُ القهوة فأضحك.

تتعاون السيدات في المسجد في إيصال بعضهن إلى البيت، ولا ينصرفن إلا وقد ضمنَّ ذلك.

وتدعونا صديقة فلسطينة إلى الإفطار، تُعدّ على مائدتها ما لذّ وطاب، تُعينها في الإعداد طفلتاها -لم تبلغ كُبراهما التاسعة- نفطر قِرىً وضحكات وأحاديث تطول،، نأخذ بها حظّنا من الأنس، وتغسل به عن منزلها وَحشة الحجْر، وقد قضته وحيدة مع طفلتيها، وكانت حديثة عهد بغربه. نأكل ونشرب ونضحك، ونصلي ونقنت، فلا ننتبه إلا وقد مضى الليل واقترب موعد الإمساك، فنتسحّر، وننتظر إطلالة النور لنروح.

وتنقضي أيام الشهر الفضيل ويأتي عيدٌ -مِثلها- ملوّن يلبس فيه النساء والرجال والأطفال أزياءً أَشبه بأوطانهم.

ويبقى درس الحياة:

اغرس فسيلةً في يدك، وإن كنت لا تتطلب نباتها، وإن كانت في أرض بعيدة، أو في زمان لا يُضمن في مثله ثمر.

وضاحِك الغرباء، فالضحك يُزهر في قلوب المغتربين.

لا تعتزل باب خير، قد أُرغمنا على العزلة زمنا، سابِق إلى كل خير يُفتح لك بابه، ومدّ نياتك إلى ما لم يُفتح لك، ولا تتطاول إليه، تكفيك من الوصول النية، وحكمة الحكيم في تدبير مقاديره.

و “أَحْسِن إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ           

فلن يدوم على الإحسان إمكانُ”

أضِف تعليقاً

اشترك في القائمة البريدية، تصلك آخر التدوينات ومواد أخرى، في نشرة أسبوعية.

Sign Up to Our Newsletter

Be the first to know the latest updates